لقد بيّن الله عزّ وجلّ قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة، وقيمة الآخرة بالنسبة للدنيا، وذلك في كثي
ر
من آيات القرآن، وعلى لسان النّبيّ العدنان، فقال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ
لَهِيَ
الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت: 64، هذه هي قيمة الدنيا بصورة عامة أمام حقيقة الآخرة، وهي لا تساوي شيئًا،
فواخيبة مَن آثـر الفاني على الباقي، بل إنّ الله تعالى قدّر قيمة الدنيا من كلّ الجوانب حتّى تظهر حقيقتها للنّاس فلا يغترّوا
بها، وهذا من فضل الله على عباده ليكونوا على علم وحذر، فقد بيّن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قيمة الدنيا من مساحتها
لا تساوي شيئًا أمام سعة الآخرة فقال ''مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا} رواه البخاري.
وقدّرها عليه الصّلاة والسّلام نقدًا في السوق، فما كانت قيمتها؟ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية والنّاس كنفته، فمرّ بِجَدْي أسَكّ ميت فتناوله، والأسكّ هو صغير الأذنين وهو
عيب في الغنم ينقص من قيمته، فأخذ بأذنه ثمّ قال: ''أيّكُم يُحب أن هذا له بدرهم؟'' فقالوا: ما نحبُّ أنّه لنا بشيء، وما
نصنع
به؟ قال: ''أتُحِبون أنهُ لكُم؟'' قالُوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا
فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميتٌ، فقال: ''فوالله؛ للدنيا أهون على الله من هذا
عليكُم'' رواه مسلم.
وقيمة الدنيا وزنًا بيّنها النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم بقوله: ''لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ
جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا
شَرْبَةَ مَاءٍ''
رواه الترمذي، وأمّا قيمة الدنيا بالكيل فقد بيّنها النّبيّ عليه الصّلاة
والسّلام بقوله: ''وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ'' رواه مسلم.
وأمّا
قيمتها الزمنية فقد بيّنها الله تعالى قصيرة العمر فقال: {قَالَ كَمْ
لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ
يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} المؤمنون: 114-112
فالدنيا من كل الوجوه لا تساوي شيئًا أمام الآخرة، فجميع ما أوتيه الخلق من الذهب والفضة، والطير والحيوان، والأمتعة
والبنيان، والنساء والبنات والبنين، والمآكل والمشارب، والجنّات والقصور، وغير ذلك من ملاذّ الدنيا وزخرفها، كلّ ذلك متاع
الحياة الدنيا وزينتها، يتمتّع به العبد وقتًا قصيرًا، محشوًا ممزوجًا بالمنغّصات، مشوبًا مخلوطًا بالمكدّرات، ويتزيّن به الإنسان
زمانًا
يسيرًا للفخر والرياء، ثمّ يزول ذلك سريعًا، وتعقبه الحسرة والندامة، قال
الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} القصص: ,6
0
فما عند الله من النّعيم المقيم، والعيش الهنيء، والقصور والسرور خير وأبقى في صفته وكميته وزمنه وقيمته، فهل
يستفيد الإنسان من عقله ليعلم أيّ الدارين أحق بالإيثار؟ وأيّ الدارين هي دار القرار؟ فليختر العاقل لنفسه ما هو أولى
بالاختيار، قال ربّنا تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
*وَالاخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى}