كان الفرس يسيطرون على مناطق واسعة تبدأ من بادية الشام في الغرب، وشمال
جزيرة العرب من الجنوب، وتتوسع منطقتهم في الغرب وتتناقص حسب انتصارهم على
الروم، أو هزيمتهم أمامهم، فتارة يتوسعون وقد وصلوا إلى سواحل البوسفور ثم
ارتدوا حتى حدود الفرات، وكان عدد من القبائل العربية تقيم في المناطق
التي يسيطر عليها الفرس سواء في منطقة السواد أم على ضفاف الفرات والجزيرة،
ومن هذه القبائل تغلب وبكر وشيبان وربيعة وطيء، وبعضها كانت مُتنصرّة في
أغلبها كتغلب، وكانت طيء تعلو ويقيم رئيسها في بلدة الحيرة على مقربة من
الفرات، ويعمل للفرس على توطيد سلطانهم في تلك الأنحاء، وكان من بني شيبان
فارس مقدام قد دخل في الإِسلام هو المثنى بن حارثة الشيباني، وقد طلب من
أبي بكر بعد أن انتهى من حروب المرتدين في البحرين أن يؤمره على قومه وعلى
من دان بالإِسلام في تلك الجهات ليجاهد الفرس، ويقاتل أعداء الله، فأمره
أبو بكر فصار يناوش الفرس، وينتصر عليهم وقعة بعد وقعة إلا أنه في عدد قليل
من المجاهدين، والفرس كثير، ومعهم عدد كبير من العرب المُتنصّرة، والقوة
ستتناقص مع الأيام أمام الكثرة فكان لا بدّ من إرسال المدد للمثنى. وانتهى
خالد من حرب اليمامة، فجاءه الامر من أبي بكر بالتوجه إلى العراق ليدعم
المثنى بن حارثة الشيباني وليكن دخوله من الجنوب على حين يدخلها عياض بن
غنم من جهة الشمال، وليكن لقاؤهما في الحيرة ومن سبق إليها كانت له الامرة
على صاحبه. وكان ذلك في مطلع العام الثاني عشر للهجرة. وأمد خالداً
بالقعقاع بن عمرو التميمي، وأنجد عياض بن غنم بعبد ابن عوف الحميري.
سار خالد بن الوليد مباشرة باتجاه الحيرة، والتقى في طريقه ببعض القريات
(ألّيس) وما جاورها فصالح صاحبها (بَصْبَري بن صلوبا)، ثم اتجه نحو
الحيرة، وكان عليها من قبل الفرس هانئ بن قبيصة الطائي، فقال له خالد : إن
أدعوكم إلى الله وإلى عبادته، وإلى الإِسلام، فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم
ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم بقوم يحبون الموت كما
تحبون أنتم شرب الخمر. فقالوا : لا حاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين
ومئة ألف درهم. وكان المثنى بن حارثة الشيباني يقاتل تارة في جهات كسكر
وأخرى في جهات الفرات الأسفل، يقاتل الهرمزان في تلك البقاع، فاستدعى خالد
المثنى ونزلوا إلى جهات الأُبُلّة لتجميع قوات المسلمين، وكانوا في ثمانية
عشر ألفاً، وقد سار المثنى قبل خالد بيومين، وسار عدي بن حاتم وعاصم بن عمر
التميمي بعد المثنى بيوم، وأعطاهم خالد موعداً في الحفير. وقد التقوا
بهرمز في أرض الأُبُلّة، وكانت المعركة وأراد هرمز أن يغدر بخالد إلا أن
القعقاع بن عمرو قتل هرمز، والتحم مع حماته الذين أرادوا أن يغدروا بخالد،
وركب المسلمون أكتاف أعدائهم حتى غشاهم الليل، وكان الفرس قد ربطوا أنفسهم
بالسلاسل لذلك سميت هذه المعركة ذات السلاسل... وأرسل خالد بن الوليد
المثنى بن حارثة في أثر القوم، وبعث معقل بن مُقرّن إلى الأَبلّة ليجمع
المال والسبي، وسار المثنى حتى بلغ نهر المرأة، فحاصرها في الحصن الذي كانت
فيه وكان على مقدمته أخوه المعنّى، فصالحت المرأة المثنى، وتزوجها
المعنّى، أما المثنى فقد استنزل الرجال من الحصون، وقتل مقاتلتهم، وأقر
الفلاحين الذين لم ينهضوا للقتال مع الفرس.
كان أردشير قد أمر بجيش كبير بقيادة (قارن بن قريانس) فلما وصل إلى
المذار(على ضفة نهر دجلة اليسرى تقع شمال القربة ب 37 كلم، بين البصرة
وواسط، وهي قصبة ميسان) وصل إليه خبر هزيمة هرمز ومقتله، فتجمع هناك، فسار
إليه خالد، ونشبت معركة قتل فيها معقل بن الاعشى القائد الفارسي (قارن)،
وقتل عاصم بن عمرو خصمه
(الانوشجان) وقتل عدي بن حاتم عَوه
(قُباذ) وقتل يومذاك من الفرس عدد كبير وصل إلى ثلاثين ألف مقاتل. وبعدها وزع خالد الغنائم وقسّم الفيء.
وتجمع الفرس ثانية في
(الولجة) مع ما جاءهم من مدد قوامه جيشان الأول بقيادة
(الأندرزعر) والثاني بإمرة
(بهمن جاذويه) فسار إليهم خالد، وقد خلّف سويد بن مقرن في الحفير، وقد هزمت الفرس هزيمة منكرة أيضاً في هذه الجولة.
وتأثر نصارى العرب من هذه الانتصارات فكاتبوا الفرس وتجمّعوا في ألّيس،
فأسرع إليهم خالد وانتصر عليهم انتصاراً مبيناً وقتل منهم ما يقرب من سبعين
ألفاً، ثم اتجه نحو الحيرة ثانية.
ولما انتهى خالد من الحيرة ولّى عليها القعقاع بن عمرو، وخرج يريد دعم
عياض بن غنم الذي كلف بشمال العراق، فنزل خالد إلى الفلّوجة ومنها إلى
كربلاء فولى عليها عاصم بن عمرو، وكان على مقدمته الأقرع بن حابس، أما
المثنى فكان يناوش الفرس على شواطئ دجلة. وسار خالد إلى الأنبار ففتحها ثم
استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر، فهزم جموع أهلها الذين هم
من العرب المُتنصّرة والعجم، ثم حصرها فنزلوا على حكمه، فقتل من قتل منهم
وأسر وسبى. واستخلف على عين التمر عويم بن الكاهل، وسار باتجاه عياض بن غنم
الذي علم أنه لا يزال في
دومة الجندل(وهي في شمال جزيرة العرب، ومكانها اليوم مدينة الجوف) وقد كتب إليه يستنجده، فكتب إليه خالد "من خالد إلى عياض إياك أريد".
ولما علم أهل دومة الجندل مسير خالد إليهم استنجدوا بالقبائل المُتنصّرة
من العرب من كلب وغسان وتنوخ والضجاعم فأمدوهم. ولما اقترب خالد من دومة
الجندل اختلف رئيساها وهما : أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، فاعتزل
الأكيدر، وهَزم الجودي ومن معه ومن جاءه من الدعم الذين لم يتسع لهم
الحصن. وأقام خالد بدومة الجندل، وأرسل الأقرع بن حابس إلى الأنبار، وبعد
مدة لحق خالد بالحيرة.وخرج خالد من الحيرة وولّى عليها عياض بن غنم، وكان
على مقدمة خالد الأقرع بن حابس... ثم بعث وهو بالعين أبا ليلى بن فركي إلى
الخنافس والقعقاع إلى حُصيد. فانتصر القعقاع في حصيد، وفر من بالخنافس إلى
المصَيّخ إذا لم يجد أبو ليلى، بالخنافس كيدا. وسار خالد وأبو ليلى
والقعقاع إلى المصيخ وكان قد اجتمع فيه من هرب من الخنافس والحصيد، وهناك
انتصر المسلمون انتصاراً مبيناً. ثم ساروا إلى الثني (مكان بالجزيرة
الفراتية يقع إلى الشرق من الرصافة في سوريا ه بنو تغلب) والزُّمَيْل(موقع
إلى الشرق من الرصافة) فانتصروا على أعدائهم، ثم ساروا إلى الرضاب(موقع إلى
الشرق من الرصافة، أو مكانها قبل أن يعمرها هشام بن عبد الملك)، وبها هلال
بن عَقَة، وقد انفض عنه أصحابه عندما سمعوا بدنو خالد وجيشه، ثم ساروا إلى
الفراض (موضع بين إلى الشرق من البو كمال على بعد 40 كيلاً منها، قريبة من
الحدود بين سوريا والعراق اليوم) وهي على تخوم الشام والعراق والجزيرة
وذلك في شهر رمضان، وتعاون الفرس والروم ضد المسلمين، والتقت الجموع على
نهر الفرات فقتل من الفرس والروم والعرب المُتنصّرة أكثر من مئة ألف...
أقام خالد بن الوليد عشرة أيام بالفرائض، ثم اذن بالرجوع إلى الحيرة
لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بالناس، وأظهر خالد أنه
في الساقة، وسار مع عدة من أصحابه إلى مكة يؤدي الحج، ورجع من الحج، فوصل
إلى الحيرة ولم تدخل الساقة البلدة بعد، ولم يدر الخليفة أبو بكر بما فعل
خالد إلا بعد مدة، فعتب عليه، وصرفه عن العراق إلى الشام.
وصل كتاب أبي بكر إلى خالد وهو بالحيرة وفيه : أن سر حتى تأتي جموع
المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت،
فإنه لم يشْجِ الجموعَ من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس
نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك
عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن، وهو ولي الجزاء.
وجاء فيما كتب أبو بكر لخالد : أما بعد فدع العراق وخلّف فيه أهله الذين
قدمت عليهم، وهم فيه، وامض مختفياً في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا
معك العراق من اليمامة وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي
الشام فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير
الجماعة والسلام.
سار خالد من الحيرة في العراق، وقد استخلف المثنى به حارثة الشيباني على
جند العراق، وسار هو إلى دمشق الشام إلى أبي عبيدة : أما بعد فإني أسأل
الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء، وقد أتاني
كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي
لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته فأنت على حالك التي كنت
عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمراً، فأنت سيد المسلمين، لا
ننكر فضلك، ولا نستغني عن رأيك تمم الله بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من
صلي النار والسلام عليك ورحمة الله.
سار خالد من الحيرة إلى دومة الجندل، وخرج منها من جهة
وادي السرحان إلى الشمال.