ثبات صفات النبي [صلى الله عليه وسلم] من غير تعطيل ، وتعطيل صفات الله .
(تلكَ إذاً قسمةٌ ضيزى) !
الحمدُ للهِ المتفرِّدِ بكمالِ الخصائص، والمُنَزَّهِ عن كافَّةِ النقائص ، والصَّلاةُ والسلامُ على نبيِّنا وحبيبنا وقُرَّةِ أعيننا محمدٍ ، وعلى آله وأصحابهِ وأزواجِه ومن سار على دربه واقتفى أثرَه إلى يومِ الدين ؛ أمَّا بعد :
فلا زلتُ أعجبُ مِنْ تلك اللَّوثةِ التي تولَّى كِبرَها المبتدعةُ السَّالفون ، النَّاكبون عن سُنَّةِ الوحي والعقلِ المارقون ، لوثةُ : (إثباتُ الصِّفاتِ للهِ - على وجهها المقطوعِ بهِ وروداً ودلالةً - يستلزمُ التشبيهَ والتجسيمَ و ....) فجنحوا إلى تأويلها [تعطيلها!] ، تديُّناً من بعضهم على غيرِ هدىً ، ومشاقَّةً للهِ ورسولِهِ من آخرين .
وسَرَتْ هذه اللَّوثةُ وسارَ بها الرُّكبانُ ، وانتشرت انتشارَ النارِ في الهشيم ، فعرَّجتْ على كثيرٍ من صالحي القرنِ الرَّابعِ ، والخامسِ ، والسَّادس ، والسابعِ ...... إلى يومِنا هذا ، فرضعها الصغيرِ بالتلقين ، وأُشربَها الغلام مع " الجَوْهرَة " ، فأصبحَ كثيرٌ من العلماءِ - وكثيرٌ على خلافهم - على طرائقِ أهلِ الكلام في تقريرِ أصولِ الدِّين ، وأبحروا في علومِ الآلةِ ، وعلومِ الغايةِ ؛ من عربيَّةٍ ، وحديثٍ ، وفقهٍ ، وأصولٍ ، وتفسيرٍ ، وأدبٍ ، وجعلوا هذا البابَ من المزالِقِ !
وهو - وفالقِ الحبِّ والنَّوى - مِنْ أشرفِ ما يُعلَم ويُدرك ، فبه معرفةُ اللهِ كما أحبَّ لنا أن نعرفَه ، بالقدرِ الذي أعْلَمَناه ولا يحيطونَ بشيءٍ من علمِهِ إلاَّ بما شاءَ ؛ فنزداد معرفةً له ، وحُبّاً ، وشوقاً ، وتعظيماً .
لَيْتَ شعري ، كيفَ يناجي ربَّه مَنْ أدخَل على نفسِهِ اللَّوازِمَ الباطلَةَ من الجهةِ والتحيُّزِ ونحوها ، وهو يقول : ( اللهمَّ إني أسألكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريم ) ؟ سبحانك ربِّي !
مرَّ بي وأنا أقرأ كتابَ [ فتح الباري (2/606) ط : دار طيبة ] للحافظِ ابن حجرٍ رحمه الله رحمةً واسعة ، في مسألةِ " تسوية الصُّفوف " عند قوله : (أقيموا صفوفَكم ؛ فإني أراكم من ورائي) ، وهل رؤيةُ النبيِّ أصحابَه من ورائهِ حقيقةٌ ، أو مجازٌ قُصِدَ به العلم ؟
قال - رحمه الله - : ( والمختار حملها على الحقيقة ) .
وقال قبل ذلك (2/143) : ( والصَّوابُ المختار أنه محمول على ظاهره ، وأنَّ هذا الإبصارَ إدراكٌ حقيقيٌّ خاصٌّ به صلى اللهُ عليه وسلَّم انخرقت له فيه العادة ) .
وقال الزَّينُ بن المُنَيِّرِ - رحمه الله - : ( لا حاجةَ إلى تأويلها ؛ لأنَّه [ أي التأويل هنا ] في معنى تعطيلِ لفظِ الشَّارعِ من غيرِ ضرورةٍ ) .
وقال القرطبيُّ - رحمه الله - : ( بل حملها على ظاهرها أولى ؛ لأنَّ فيه زيادةَ كرامةٍ للنبيِّ ) .
قلتُ : أيهما أولى بالقطعِ من جهةِ الدِّلالة :
قول النبيِّ : (أقيموا صفوفَكم ؛ فإني أراكم من ورائي) في الرؤية .
أو قول الله تبارك تعالى : قال يا إبليسُ ما منعكَ أن تسجدَ لما خلقتُ بيديَّ في صفةِ اليدين ؟ أو قوله تعالى : والله يحبُّ المحسنين في صفةِ المحبَّة ؟ ..... إلخ .
وهل - على عبارة الزَّين رحمه الله : لا حاجةَ إلى تأويلها ؛ لأنَّه في معنى تعطيلِ لفظِ الشَّارعِ من غيرِ ضرورةٍ - وُجِدتْ ضرورةٌ لتأويلها بالنعمةِ أو القدرة ؟ أو المحبَّة بإرادةِ الإحسان ؟ ثم - على عبارته كذلك - أليس فيه تعطيل لفظ الشارع ؟!
ألا يمكن أن يقولوا في قول النبيِّ : (أقيموا صفوفَكم ؛ فإني أراكم من ورائي) :
1 - نقطع بعدم وجودِ عينين في خلفِ رأس النبيِّ .
2 - ونقطع بعدمِ إمكان الإنسانِ - خِلْقَةً - أن يُبصرَ ما وراءَه من غيرِ التفاتٍ.
فوجبَ تأويل ذلك بالعِلمِ بحالِ مَن وراءَه .
بل جعلوا ذلكَ سهلاً مقبولاً ، أو معجزةً .
واللهَ الكاملَ المتفرِّدَ بالجلال والكمالِ خِلْواً مما وصفَ به نفسَه إلاَّ قليلاً ؟!!
سبحانَ اللهِ ، ما أضرَّ على الطالبِ دخول مهيعٍ نهى عنه السَّلَفُ .
فإلى مَنْ حادَ عن نهجِ السَّلفِ ؛ بالتأويل ، أو التجهيل ، أو التعطيل أهمسُ في أذنَيْكَ :
أنبيُّنا محمَّدٌ أعَزُّ عليكم من اللهِ ، واتخذتموه وراءَكم ظهريّاً ؟!
اللهمَّ أحسنْ عاقبتنا في الأمورِ كلِّها ، وأجرنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة .